بقلم: غزة مجيد
أتجول بسيارتي في شوارع خريبكة، تحت درجات حرارة تنزل إلى قعر الجحيم البارد الذي يعرفه كل من عاش شتاء هذه المدينة ورياحها . استوقفتني مشاهد لا تلتقطها الكاميرات اللامبالية، لكنها تحفر في الوجدان كالسكين في اللحم الحي. رجال الأمن الوطني، منظمو المرور تحديدًا، واقفون في مفترقات الطرق، ثابتون كالفولاذ، لا تزعزعهم لسعة البرد التي تعضّ العظام، ولا قسوة الطقس التي تذيب الروح قبل الجسد.
من لا يعرف برد خريبكة، لا يدرك الجحيم الذي يعنيه الوقوف ساعات طويلة في العراء، تواجه الرياح بوجهك العاري، والمطر بجسدك . لحظة غفلة هنا قد تعني فوضى أو حادثًا، وفي تلك اللحظة يصبح الإنسان وحيدًا أمام مصيره، يتساءل في سرّه: هل الواجب هذا نعمة ام نقمة ؟ هؤلاء الرجال لا تحركهم الأضواء الزائفة، ولا تغريهم الراحة الوهمية؛ همّهم الوحيد أداء الواجب، تأمين سلامة المواطنين في صمت يليق بثقل المسؤولية الذي يسحقهم.
ولم تهدأ حركة الشارع حين انهمرت الأمطار بغزارة، واشتدت الرياح في أحد المدارات، فوقفت من بعيد، متأثرًا بقساوة البرد الذي لا يرحم من في الميدان. في تلك اللحظة، لم يختبئ الشرطي، ولم يبحث عن مأوى كالجبناء الذين نحن عليهم. بل اندفع مسرعًا لفك الاختناق المروري، يفتح الطريق أمام السيارات المتزاحمة تحت المطر، يلوّح بيده يمينًا وشمالًا بحركات دقيقة ، وفي فمه صفّارة تشق ضجيج الرياح وتعيد للنظام هيبته المفقودة. كانت تلك الصورة تختصر ألف معنى.
في الوقت الذي نلوذ فيه داخل سياراتنا او هروبا الى احد المقاهي الدافئة أو منازلنا اتقاءً من البرد والمطر ، يظل رجال الأمن في الصف الأول، يواجهون الطبيعة قبل أن يواجهوا الفوضى البشرية. قسمهم الذي أدوه أقوى من الطقس، وأصدق من شعاراتنا الجوفاء. وهنا يفرض السؤال نفسه بإلحاح يعصف بالضمير: ألا يستحق هؤلاء الرجال التكريم؟ ألا يستحقون اعترافًا مجتمعيًا صادقًا، لا يأتي من المؤسسة فحسب، بل من الكلمة الخالصة، والاحترام اليومي، والإنصاف المعنوي، وتحسين ظروف العمل؟.
نقول اليوم، دون مجاملة ولا مبالغة، بتأمل يشبه اعتراف الخاطئ: فاعذرونا إن قصرنا يومًا في حقكم. تحية لكل رجل أمن وقف في الميدان، تحية لمنظمي المرور في برد خريبكة القارس، تحية لمن علّمونا، بالفعل لا بالقول، معنى الواجب والخدمة العامة – ذلك الواجب الذي يرفع الإنسان فوق نفسه.


