زنقة36
هناك من يظن أن حفلات التكريم مجرد استعراض للصور التذكارية، ومناسبة لتبادل المجاملات، وخطابات روتينية لا يسمعها أحد إلا مجاملة. لكن ليلة الوفاء التي احتضنتها القاعة هذه المرة، بدت مختلفة. ربما لأن أسماء النساء المكرّمات لم تكن من النوع الذي يلمع في التلفزيون فقط، ثم يختفي مع نشرة الأخبار.
هنا، حضرت نساءٌ أمضين أعمارهن في ردهات النضال الحقيقي، نساءٌ يعرفن أن الكلمة موقف، وأن الطريق إلى التغيير ليس مفروشا بالتصفيق، بل بالتضحيات الصغيرة التي لا يراها أحد. بينهن، كان اسم حليمة عسالي يلفت الانتباه. امرأة عركتها السياسة والالتزام العام، ولم تنتظر أحدا ليمنّ عليها بمكان في الصف الأول.
حليمة عسالي، لمن لا يعرفها جيدا، لم تدخل الحياة العامة وهي تلوّح ببطاقة انتماء بلا مضمون. جاءت من تجربة طويلة جمعت العمل السياسي بالحس الاجتماعي. لذلك حين تتكلم، يعرف المستمع أنها لا ترتجل المواقف حسب حرارة القاعة. كانت ولا تزال واحدة من الأصوات التي لم تخش أن تقول ما تعتقده، حتى لو لم يعجب أصحاب الكراسي الوثيرة.
لكن حليمة لم تكن وحدها. معها نساء صنعن حكايات لا تقل عنيدة ولا أقل إصرارا. نساء اشتغلن بصمت في القرى والمدن، في الجمعيات والهيئات والمجالس. لم يراهن الكثيرون عليهن في البداية، لكنهن أثبتن أن قوة المرأة لا تختزل في شعارات الجمعيات الموسمية، بل في قدرتها على البقاء في الميدان حين يتعب الآخرون.
ليلة الوفاء كانت لحظة لتذكير الجميع بأن النساء الحقيقيات لا ينتظرن صدفة لتقدير عملهن. أن كل واحدة فيهن جعلت من الكلمة مسؤولية، ومن الدفاع عن كرامة الناس التزاما لا يقبل المساومة. وأن وراء كل صورةٍ التقطها المصورون، أعواما من التحديات والصبر والانكسارات التي لا يحكيها أحد.
هذه الأمسية أيضا رسالة خفية للذين ما زالوا يعتقدون أن النساء مجرد زينة أو ورقة انتخابية عابرة. لو كانوا انتبهوا جيدا لقصص هؤلاء النسوة، لفهموا أن السياسة ليست حرفة سهلة، ولا مهنة أنيقة. هي في كثير من الأحيان مواجهة مفتوحة مع اليأس والخذلان، ومع العادات التي تريد للمرأة أن تبقى في الظل.
حليمة عسالي، وغيرها كثيرات، جئن ليقلن ببساطة إن النضال لا يحتاج لمن يصفق له، بل لمن يحمله كل يوم مثل عبء ثقيل على الظهر. وإن الوفاء ليس هدية يتفضل بها أحد، بل حق مستحق لمن وضعوا أعمارهم في خدمة الناس.
بعد أن انتهت الكلمات وتفرقت الأضواء، بقي المعنى الأهم: أن الوطن لا يمكن أن يقوم على نصف المجتمع، ولا أن يكتب تاريخه بيد واحدة. وأن النساء اللواتي جعلن من الصدق قاعدة، ومن الصمود سلاحا، هن رصيد حقيقي لا يقدّر بثمن ولا يليق به النسيان.