تيزنيت_أنس منصوري
أواخر غشت من كل سنة هي موعد الموسم السوسي الكبير: سيدي احمد اوموسى السملالي الجزولي دفين تازروالت (م1563).. جوستينار يرى أن شهرة الرجل بالقداسة بجنوب المغرب تقارن بشهرة سان جرمان saint Germain بفرنسا.. ازدادت شهرة الشيخ الجزولي بعدما زاره بزاويته السلطان السعدي أبي محمد عبد الله الغالب بالله، في بداية حكمه الذي امتد بين 1557-1574 حينها خاطب الشيخ الصوفي حشود القبائل الحاضرة:” أيها العرب (هوارة) أيها الأمازيغ (مجاط)، يا أهل السهول ويا أهل الجبال، أطيعوا السلطان عبد الله”.. ومنذ ذلك العهد، يدين موسم تازروالت برواجه الى الهواريين والمجاطيين.
ففي الممرات المؤدية الى الجامع، ترى العشرات من رؤوس الغنم والماعز مربوطة بإحكام وتنتظر دورها للذبح، بعدما نذرها أصحابها كقرابين وصدقات للضريح. القبائل الكبرى( إداوسملال، إداو بعقيل، إداو لتيت) يقدمون ذبائح كبيرة من رؤوس البقر. حشود من المتسولين والمتسولات يعرضون عاهاتهم أمام الملأ، باعة الشمع يعرضون سلعهم على الزوار، المتجهين نحو زيارة الضريح.. لما اقتربنا من المدخل، لا نسمع سوى أصوات الهيللة والأمداح النبوية بالامازيغية.. التصوف اسسه فقهاء عجم ويحمله دراويش عجم، ابن خلدون يرى ان حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم.. “التصوف ذكر مع اجتماع ووجد مع استماع وعمل مع اتباع”الفقراء في كل مكان، معظمهم يحملون سبحات عملاقة بحبات غليظة ويتكؤون في مشيتهم على عكاز خشبي برأس مقوس، بعضهم يلبس ثياب مرقعة إسوة بمؤسس الطريقة الدرقاوية الشيخ مولي العربي الدرقاوي (1239ه) الذي “رأى في التجرد وخرق العوائد حلا لمحاربة الاستغلال الخاطئ لمبدأ التخلية والتزكية”
و داخل القاعة الفسيحة للجامع، المرفوعة بأربعين سارية (أي نفس عدد المجاطيين، الذين استقدمهم سيدي احمد اوموسى لبناء الجامع) جلس مئات المريدين وهم يعتنقون سبحاتهم، معظمهم مسنون ملتحون قادمون من مختلف أصقاع سوس، لإحياء ذكرى وفاة القطب السملالي. في مقدمة المجلس أو “الگور” كما يسمى محليا، يجلس مقدم الطريقة بلحيته البيضاء الكثة وهو يفرش أمامه منديلا مزركشا لتلقي الصدقات والتبرعات النقدية، فيما يمر باعة الماء بملابس تقليدية يغلب عليها اللون الأحمر: طربوش كبير الحجم وجبة حمراء مزينة بألوان ورسومات مختلفة وسروال قصير فضفاض، وهم يحملون قربة جلدية (أيديد) في نهايتها صنبور نحاسي وناقوس صغير لجذب الانتباه وحقيبة جلدية (أقراب) لوضع القطع النقدية بها.. بين الصفوف لتوزيع طاسات الماء المنسم برائحة القطران على المريدين، دون أن يتشددوا في طلب مقابل مادي عن خدمتهم كما يفعل زملائهم في ساحات مراكش.. الفقراء يقدرون الصلحاء والأولياء ممن اشتهروا بالصلاح والتصوف، يؤمنون أيضا أن الأولياء لهم كرامات ومكاشفات دون غيرهم من عامة الناس، منها زعمهم بالأخذ عن النبي محمد من خلال رؤى في المنام.. ويعتبرون عدم زيارتهم صدا عن أولياء الله تعالى وهجرا لهم، يعتقدون أن “الولي هو المؤهل لإصلاح المجتمع وتدبير أموره والرقي به”..
لم تسنح لي الفرصة لمشاهدة الطقس، الذي يعجبني لدى الدرقاويين أي “العمارة” التي طالما سمعتها في أشرطة الكاسيت التي يسجلها والدي في الحضرات التي يشارك فيها، لأن الرقص الصوفي لا يحضر في الحضرات النهارية، الدراويش لا يمارسون رقصهم سوى ليلا مثلهم مثل ممارسي “أحواش”.. عكس الرقصة المولوية للدراويش الأتراك، التي يمتزج فيها الرقص بأصوات الدف والناي، فإن الرقص الصوفي للدرقاويين يخلو من الآلات الموسيقية، إذ ينتظمون وفق حلقة نصفها الأول يردد الأذكار والنصف الثاني يردد لازمة: “الله حي ..الله حي” على ايقاع التصفيقات بالأيدي.. رغم ذلك، لم تسلم “العمارة” من سهام النقد، حيث أنكرها أتباع الناصرية حين ظهورها بسوس في إطار خطاب السجال والمفاضلة بين الطرق الصوفية.. وهو الجدل الذي حسمه الشيخ الحسن التمكدشتي بقوله: “يا أهل السلسلة الناصرية الشاذلية، عليكم بعيوب أنفسكم وتغافلوا عن عيوب غيركم”.. كانوا يخصصون مجالس الفترة الصباحية لترديد أمداح نبوية بالامازيغية تتخللها خطب الوعظ والارشاد بنفس اللغة، أهم القصائد التي ينشدونها هي القصيدة البوشيكرية نسبة الى محمد بن عبد الله البوشيكري الاكماري، الذي نظم قصيدة طويلة تتضمن مدحا للرسول وسيرته. وهي قصيدة يقول فيها أن الله سخر له النظم كما سخره للبوصيري في البردة والهمزية، وقد كان عامة السوسيين يحفظونها خصوصا أصحاب الطرق الصوفية، وقد كان الوعاظ في الـأسواق والمواسم يجمعون الناس بها ولها.. وحسب المختار السوسي، فإن محمد بن عبدالله البوشيكري الاگماري يعد من الفقهاء، الذين يترددون على ايليغ في عهد سيدي الحسين اوهاشم، الذي كان مائلا الى ما كان معهودا في جده بودميعة من إكبار العلم وحملته، وإن كان لم يدرك من ذلك معشار ما أدركه جده، لما بين مراكزهما