زنقة36
في القاعة الكبرى لمحكمة الاستئناف بخريبكة، حيث تتقاطع لغة القانون مع هموم الواقع، التأمت ثلة من القضاة والمحامين وأساتذة القانون في ندوة علمية وازنة، حملت عنوانًا دالًا: قراءة في القانون 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة بين فلسفة العقاب وإكراهات التنزيل.
الندوة، المنظمة بشراكة بين محكمة الاستئناف وهيئة المحامين بخريبكة، لم تكن مجرد تمرين تقني على قراءة مواد قانونية، بل بدت – في عمقها – محاولة جادة لإعادة التفكير في مفهوم العقوبة داخل منظومة العدالة المغربية، في زمن لم يعد فيه الحبس وحده قادراً على ردع الجريمة، ولا على تهذيب الجاني.
افتتحت الجلسة بالنشيد الوطني، في رمزية واضحة بأن النقاش يدور حول الوطن والعدالة وحقوق الإنسان. ثم أخذ الكلمة الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف، بكلمات ترحيبية انطلقت من العرف القضائي، لكنها لم تخل من تقدير عميق لهيئة الدفاع، وللأساتذة الذين قدموا من جهات مختلفة للمساهمة في هذا النقاش، في وقت يُطرح فيه أكثر من سؤال حول جدية الدولة في تنزيل هذا القانون.
من جانبه، تدخل الوكيل العام بكلمة رسمت ملامح الإشكال الحقيقي: قانون جديد، طموح، يحمل فلسفة مختلفة، لكنه يصطدم بواقع إداري وقضائي لم يتخلص بعد من إرث الزنازين، ومن منطق الزجر التقليدي. قالها الوكيل العام بوضوح: إن العقوبات البديلة رهان، لكنها تظل رهينة بمدى استعداد المنظومة القضائية والمؤسساتية لتنفيذها فعليا.
أما كلمة السيد نقيب هيئة المحامين، فقد جمعت بين البُعد التنظيمي والتأطير المفاهيمي. ذكّر النقيب بما بذلته الهيئة من مجهودات لتنظيم هذه الندوة، وسلط الضوء على أهمية القوانين المؤطرة للعقوبات البديلة، وعلى ما يعتريها من صعوبات عند التنزيل، خصوصا أمام قاضٍ لا يجد بديلاً جاهزًا، وإدارة لم توفّر بعد البنية التحتية الضرورية.
النقاش، إذن، لم يكن نخبويًا ولا إنشائيًا. كان مواجهة هادئة بين نص قانوني يحمل فلسفة جديدة، ومنظومة تنفيذية لا تزال تعيش في الماضي. قانون 43.22 جاء ليقول: لا للحبس في الجنح البسيطة، نعم للعمل لفائدة المجتمع، للغرامة اليومية، للمراقبة القضائية. لكن الواقع يقول: من يراقب؟ من يُؤطّر؟ من يُنفّذ؟
ولعل القيمة الحقيقية لهذه الندوة لا تكمن فقط في أوراقها العلمية، بل في لحظة الصدق التي سمحت بها: أن نعترف، أخيرًا، بأننا نُقنن بأحلام كبيرة، لكن ننفذ بإمكانات صغيرة، وربما بإرادة أقل.
في النهاية، خرج الحاضرون بكثير من التساؤلات، وقليل من الأجوبة. لكنهم خرجوا أيضًا بإحساس مشترك: أن العدالة المغربية، إن أرادت فعلاً أن تتطور، فعليها أن تُقنع الجميع بأن العدالة ليست فقط في إصدار الأحكام، بل في طريقة تنفيذها… وبأن القانون لا يُقرأ فقط، بل يُنزّل.