زنقة36_غزة مجيد
في خريبكة، لم يعد التسول مجرد ظاهرة اجتماعية مرتبطة بالحاجة والفقر، بل تطوّر ليُصبح مهنة قائمة بذاتها، بل وأكثر من ذلك—فنًّا له محترفوه ومبدعوه الذين يُتقنون أدوارهم ببراعة تستحق التصفيق! فوسط مقاهي مجمع الفردوس، التي يُفترض أن تكون قبلة للراحة والهدوء، يُقدّم المتسولون عروضًا يومية لا تقل إبهارًا عن عروض المسرحيات الاحترافية.
ما إن تجلس في أحد المقاهي حتى يبدأ العرض الأول: طفل صغير بملابس بالية يتقن نظرة الحزن مع دمعة اصطناعية في زاوية عينه، يُرافقه خطاب مؤثر عن المرض واليتامى والجوع. إذا لم تتأثر، فلا بأس، العرض الثاني قادم—رجل مسنّ يحمل شهادة طبية تبدو كأنها ناجية من حريق، يلوّح بها أمام عينيك ويقسم أن حالته لا تقبل التأجيل.
أما إذا لم تُخرج محفظتك بعد، فاستعد للمشهد الأخير والأكثر إبداعًا: شابٌ في مقتبل العمر، يرتدي ملابس أنيقة ويخبرك أنه طالب جامعي نسي محفظته ويريد منك مبلغًا بسيطًا للعودة إلى مدينته.
يبدو أن محترفي التسول في خريبكة قد تجاوزوا مجرد الطلب العادي للنقود، فقد أصبحوا يُتقنون فن التسويق لمآسيهم. بعضهم يحمل أوراقًا طبية وصورًا بالأبيض والأسود لأطفال جائعين (غالبًا من الإنترنت)، بينما يُبدع آخرون في سرد قصص درامية مُلفقة تجعل أفلام هوليوود تبدو كأنها ألعاب أطفال.
ولا يقتصر الإبداع على الروايات؛ فهناك من يُتقن فنّ الضغط النفسي، مثل التحديق الطويل والصمت الحزين، أو الدعاء لك بالصحة والرزق إن دفعت، وبالويل والثبور إن تجاهلتهم!
في هذا السوق المربح، أصبحت المنافسة شديدة بين المتسولين. فمنهم من لجأ إلى الابتكار التكنولوجي عبر تشغيل تسجيلات صوتية لحالات مرضية أو استعطافات مؤثرة، بينما لجأ آخرون إلى حمل أطفال نائمين لإضفاء الواقعية على معاناتهم.
والطريف أن بعضهم بدأ يكوّن شبكات احترافية، تتوزع على المناطق الحيوية وتنسق فيما بينها لضمان تغطية متوازنة للسوق. وهكذا، تجد أن التسول في خريبكة لم يعد مجرد طلب بسيط، بل تجارة مدروسة لها آليات توزيع جغرافي وخطط تسويقية محكمة.
إذا استمرت هذه الظاهرة على هذا النحو، فقد نفكر قريبًا في تنظيم مهرجان للتسول الاحترافي، مع جوائز لأفضل أداء درامي وأقوى تأثير نفسي وأبرع استراتيجية تسويقية. وربما نشهد قريبًا إطلاق معاهد تدريبية تُؤهّل المتسولين وتمنحهم شهادات احترافية!
في النهاية، وبينما تستمر عروض التسول في شوارع خريبكة، يبقى السؤال: هل نحن أمام أزمة اجتماعية أم نهضة فنية جديدة؟ ومتى ستُدرك الجهات المسؤولة أن معالجة هذه الظاهرة لا تحتاج إلى شرطة أو حملات موسمية، بل إلى إصلاح شامل يُعيد للمواطن كرامته بدلاً من تركه يتفنّن في مهنة الاستعطاف؟
وإلى ذلك الحين، لا تنسَ أن تُحضّر محفظتك عند زيارة خريبكة، لأنك ستحتاج إلى تذكرة دخول لعروض التسول الاحترافية في مجمع الفردوس!