زنقة36:
في مشهد سياسي ملتبس ومثقل بالإشارات، غاب عزيز أخنوش، رئيس الحكومة، عن الاجتماع الأول المخصص لإعطاء انطلاقة التحضير للاستحقاقات التشريعية المقبلة. اجتماع جمع وزير الداخلية بالأمناء العامين للأحزاب، في سابقة لم يشهدها عهد سابقيه من رؤساء الحكومات، ممن دأبوا على تولي زمام هذا اللقاء المفصلي بأنفسهم.
نتذكر جميعاً أن عبد الإله بنكيران، في عزّ الصراع مع «التحكم» ومحاولات الالتفاف على الإرادة الشعبية، لم يتخلّ عن موقعه الرمزي كرئيس للسلطة التنفيذية، فرأس اللقاء الأول التحضيري لانتخابات 2016. وسار على نهجه سعد الدين العثماني سنة 2020، رغم هشاشة وضعه السياسي وقتها، وبرودة شعبيته.
لكن في 2025، اختار أخنوش أن يتوارى عن الأنظار، ويُفوّض المهمة لوزير الداخلية. لماذا؟ هل هي مجرد صدفة بروتوكولية؟ أم أن الرجل، الذي دخل السياسة من بوابة المال لا من باب النضال، بدأ يشعر بثقل الكرسي الذي جلس عليه بثقل المال الانتخابي أكثر مما جلس عليه بثقة الشارع؟
غياب أخنوش عن هذا اللقاء ليس حدثاً عابراً، بل هو عنوان لتحول سياسي عميق. فمنذ خطاب العرش، الذي رمى أكثر من كرة في ملعب الحكومة، والأعين تتجه صوب رئاسة الحكومة: هل ما تزال تُمسك بمقود المرحلة؟ أم أن اليد المرتعشة باتت تحتاج لمن يُمسك عنها القرار؟
السؤال المطروح اليوم بحدة: هل نحن أمام بداية انسحاب طوعي من صدارة المشهد؟ هل بدأ الرجل، الذي وعد بمسار الثقة، يخط طريقه نحو مسار المغادرة؟
السياسة ليست فقط في الأقوال، بل في الرموز. ورئاسة رئيس الحكومة لهذا النوع من الاجتماعات ليست مجرد مجاملة بروتوكولية، بل هي تأكيد على أن الإشراف السياسي على العملية الانتخابية ينطلق من رئاسة الحكومة لا من دهاليز وزارة الداخلية.
بغياب أخنوش، تعود وزارة الداخلية لتتصدر المشهد، وتُمسك وحدها بمفاتيح المرحلة المقبلة. وكأننا عدنا إلى منطق ما قبل دستور 2011: حيث كانت الانتخابات تمر من عيون السلطة، لا من إرادة المواطن.
حينما أطلق حزب التجمع الوطني للأحرار برنامجه السياسي بشعار مسار الثقة، رفع السقف عالياً: وعود بـخلق مليون منصب شغل، وتعميم الحماية الاجتماعية، وإحياء الطبقة المتوسطة، وتطبيب عمومي في متناول الجميع. لكن ما الذي تحقق فعلاً؟
من يقف اليوم على حال المدرسة العمومية، ويعاين أعطاب الصحة، ويستمع لحناجر المواطنين التي تخنقها الأسعار، يدرك أن «مسار الثقة» تحوّل في أعين كثيرين إلى «مسار الخيبة».
في هذا السياق، يصبح غياب رئيس الحكومة عن الاجتماع الانتخابي الأول، إشارة دالة على أن من بدأ السباق بشعارات صاخبة، قد لا يكون مستعداً للوصول إلى نهايته، أو ربما يتهيأ للخروج الآمن، قبل أن يسأله الناس: أين نحن من وعودك؟
ثمة من يقرأ غياب أخنوش على أنه ترجمة لصراع صامت في الكواليس. فبعد خطاب العرش، الذي طالب بمسؤولين أقوياء وذوي كفاءة، هل تلقى الرجل الرسالة؟ وهل يتحرك العقل المدبر للدولة لتصحيح مسار أغلبيته؟
أخنوش الذي صعد إلى القمة بسرعة صاروخية، هل يبدأ نزوله التدريجي بهدوء؟ أم أن ما خفي كان أعظم، وما ينتظر المشهد السياسي قبيل انتخابات 2026 أكبر من مجرد غياب عن اجتماع بروتوكولي؟
السياسة لا تحب الفراغ، والمؤسسات لا تحتمل الشك في رمزيتها. غياب رئيس الحكومة عن محطة إطلاق المسار الانتخابي ليس تفصيلاً، بل خلخلة في هندسة الثقة التي بُنيت عليها شرعية حكومته.
وقد يكون التاريخ يسجل بصمته: أخنوش بدأ ولايته السياسية بكلمات كبيرة، لكنه قد ينهيها بصمت قاتل… وكأن لسان حاله يقول: أدّيت الدور، وانتهى العرض.