بفلم: غزة مجيد
في زمن مضى، كانت خريبكة مشبعة بهمهمات المقاهي وقصص الهوامش.جيلٌ كامل اعتقد أن السلطة تُنتزع بالهمسة، وأن النفوذ حكرٌ على من يجيد حياكة: (فلان قال عنك، وفلان ودّاك هو السبب…) بحثًا عن متعة وشاية تفتح له باب المسؤول وتملأ جيب العلاقات الفارغة.
كان الهمس أغلى من الملفات، وكان التودد للمسؤولين طقسًا شهريًا لا يفوته إلا المغفلون. بعض المسؤولين راحلون، تركوا وراءهم عادة سيئة أُغلقت الأبواب في وجهها: جمع الكلام الفارغ، وصناعة التفاهة، وتصفية الحسابات. لكن زمنهم انتهى، ومعه أُغلقت نوافذ النميمة.
صفارة جديدة أطلقها المسؤولون الذين جاؤوا بعدهم، فجعلوا للمحاضر وزنًا، وللأوراق الرسمية قيمةً، وتركوا الكلام الفارغ في أرشيف النسيان. على حين غرة، انقلب الجدول على الانتهازيين والراقية الذين عاشوا عمرهم وهم يعتقدون أن الهواتف أسرع من العمل، وأن الظهور في المقاهي أصل السياسة، وأن ملفاتهم مجرد أوراق لتغطية هوامش الفشل.
وفي الخلف، جنود الوكالة الافتراضية يتطوعون للهجوم والتطبيل على صفحات التواصل الاجتماعي وعلى قارعة الإنترنت. يظنون أن التغريد لصالح المسؤولين يمنحهم بطاقة عبور إلى بلاط السلطة، أو يرفع عنهم الحرج إن جاء يوم الحساب. لكن هؤلاء المسؤولين لم يطلبوا لا مدافعًا ولا مطبِّلًا ولا مسوق منصات، بل مضوا يشتغلون في صمت الكفاءة، يتركون للنتائج وحدها حق الكلام، وللبعض أن يلهث خلفهم في سباق بلا خط نهاية.
أما عصر التقرب إلى العامل أو الكاتب العام فصار حلمًا مستحيلاً. المسافة بين البلاط والمتوددين صارت سنة ضوئية، وكل محاولة للتعارف أو التودد تذهب أدراج الرياح. العمالة اليوم لم تعد تسمع للمداحين، ولا تفتح أبوابها للاعبي العلاقات المصطنعة. فقد حلّت الكفاءة محل المجاملة، وصار النهج واضحًا: العمل أولًا، ثم النتيجة، ثم المحضر الحاسم.
وفي ربوع العدالة، برز القضاء النزيه. قاضٍ لا يبحث عن الإرشاد، ولا يقبل مجاملات السماسرة، ولا ينحني لأصحاب الشكايات الفارغة. المحكمة اليوم لا تدين إلا بما تنطق به الوثيقة؛ سوق التصفية الشخصية أُغلق، وسماسرة المحاكم وجدوا أنفسهم بلا مأوى ولا زبون.
ولا عزاء لأشباه السياسيين الذين جاء بهم القاسم الانتخابي من ضفة الصدفة. هؤلاء يوزعون الألقاب ويقتسمون صورة الأعيان فوق المنابر، متناسين أن الملفات الحقيقية تُعرِّيهم، وأن أهل المدينة يفرّقون جيّدًا بين رئيس بالعمل ورئيس بالصدفة، بين خبير بالتضحية وهاوٍ للبرودا.
الرسالة هنا ليست نصيحة ولا تهديدًا: من يملك المحاضر فليتكلم، ومن عرض بضاعته في المقاهي أو المنصات أو السلالم الفارغة فالنوافذ قد أُغلقت، وما عادت تسمع إلا صوت النتائج.لقد أُغلقت الأبواب في وجه الكلام الفارغ، وفتحت أمام من يطرقها بالحجة، لا بالخرافة.